Jassy

ما أقسى الرجوع إليه

ديسمبر 13th, 2008 by Jassy




   حدث في أحد شوارع المدينة المكتظة بالصخب واللهاث ، أنه في يوم من آخر أيام الصيف ، توقفت فجأة سيارة أجرة صفراء كانت تقل عاشقين في مقعدها الخلفي … ثم ترجلت الفتاة من السيارة التي فتح بابها الأيمن بعنف لا يقل إثارة للانتباه عن عنف الصفعة التي ودعت بها الفتاة الشاب في تلك اللحظة ، قبل أن تمضي مسرعة لتغيب وسط جموع المارة .


    هل كان شجاراً أو خلافاً على مسألة تافهة؟ هل قال ما جرح كرامتها؟ وهل كانت على صواب إلى الدرجة التي يتوجب عليها أن تثأر لكبريائها على الفور وبهذه الطريقة المفاجئة كما بدت لبعضهم ، والمألوفة كما اعتبرها البعض الآخر؟!


    كل شيء حولها بدا مسرعاً ، وكأن السيارة حين توقفت ، تبادلت السرعة والثبات مع كل ما دونها من حجر وبشر وجماد .


    كل شيء حولها بدا مضطرباً ، غائماً ، رجراجاً : الخطى ، الطريق ، الأرصفة ، الشوارع ، واجهات المحلات والأبنية ، وعبارات الغزل التي كانت تتطاير كما الشرر في عينيها المتقدتين بالغضب .


    تفتح باب البيت بمفتاح مضطرب كما لو أنه يسيل زئبقاً بين أصابعها ، تدخل مسرعة إلى غرفتها ، وترتمي على السرير ثم تجهش ببكاء مر .


    * * * * *


    كان يتعمد إهانتي!


    لا تفسير للأمر غير ذلك … لا تبرير له . للمرة الثالثة يناديني باسمها … للمرة الثالثة تستعير شفاهه ذلك الاسم من ذاكرة متواطئة مستلبة .


    كيف لي ألا أشعر بضآلة حضوري أمام سطوة غيابها؟!


    كيف لي أن أرد هذه السطوة عن زمني ، كيف لي أن أحتج سوى بهذه الطريقة وقد اشتعلت شهوة الانتقام في كل ذرة من جسدي؟


    تكفكف اضطرابها ، تنشر التعب على صدر وسادتها ، ثم تنهض كلبوة جريحة :


    إذا تجرأ على الاتصال بي فلن أرفع سماعة الهاتف ، سأنتشي برنينه الملحاح وهو ينتظر أن أرد عليه دون جدوى . وإذا تجرأ أكثر وأتى إلى هنا فسأغلق الباب في وجهه ، سأطرده بلا وازع من حب أو شفقة وسأجعله يتمنى لو لم يعرفني!


    * * * * *


    لا أعرف كم من الوقت مضى .


    ساعة .. ساعتان .. ثلاث .. بالتأكيد لن يتجرأ على الحضور بعد الآن . ما زال مرتبكاً مما حدث ، لا يعرف كيف سيستجمع شتات مشاعره وأفكاره ، لا يعرف كيف سيجد مبرراته الواهية ، وكيف سيصوغ عبارات اعتذاراته المفعمة بالتوسل والرجاء ، لكنه سيحاول الاتصال بي ، أعتقد أنه يحوم حول الهاتف ، يضرب الرقم ثم يغلق السماعة من شدة الحيرة والارتباك .


    إذا اتصل ليعتذر فسأرد عليه ، وأقول له ما كان يجب أن أقوله منذ سنوات ، منذ انتشلته حطاماً يعاني - مع حبه الأول - سكرات النزاع الأخير … ثم سأقرر : آسفة اعتذارك ليس مقبولاً … لا قيمة له!


    * * * * *


    ها قد انقضى هذا اليوم …


    سأمنحه فرصة إلى الغد فقط ، فرصة الحديث معي أو رؤيتي للمرة الأخيرة في حياته … سيكون يوماً مشهوداً لن ينسى ، سأثأر فيه من قهر كل السنوات التي أضعتها معه!


    * * * * *


    في اليوم التالي تأتي إلى عملها متأخرة على غير العادة .


    (هل اتصـل بي أحد؟) تسأل زميلتها . إذا حاول الاتصال بي إلى هنا فسأقول له إن هذا مكـان عمل … والهاتف ليس مخصصاً لمناقشة مشكلات العشاق الفاشلين أمثالك … إذا أردت الحديث اتصل بي في البيت . أما إذا انتظرني أمام الباب بعد انتهاء الدوام الرسمي ، فسأقابله بجفاء ، وسأمشي معه على الرصيف بنفور واضح ، ثم أستمع إلى اعتذاره بصمت دون أن أنبس ببنت شفة!


    * * * * *


    إذا أتى اليوم أو حاول الاتصال فلن أرد عليه بجفاء تام ، سأستمع إليه ، ربما سأصمت كثيراً ، ربما ستفلت مني كلمة قاسية على غير العادة لكنني لن أتمادى في قطيعتي .. يكفي أن يعتذر .


    * * * * *


    إذا أتى هذا الأسبوع فلن أقسو عليه .


    سأقبل اعتذاره الرقيق … تكفي ابتسامة عتب ، أو بعض عبارات اللوم التي يداري بها العشاق زلاتهم ، ويغفرون إثرها أخطاء بعضهم .


    * * * * *


    إذا تمكن من تجاوز خجله والاتصال بي بعد كل هذه المدة ، سأقبل اعتذاره على الفور .


    سأطوق ندمه بابتسامة امتنان ، سأقول له إن وفاءه لحبه الأول على هذا النحو ، واستسلامه الأليف لذكراها بعد كل هذه السنوات خليق أن يزيد من إعجابي وتقديري له … بغض النظر عن موقعي في حياته الآن ، وموقعه الهام في حياتي!


    * * * * *


    مضى الصيف آخذاً معه حريق الترقب ولهيب الانتظار .


    جاء الخريف وتساقطت على دروبه الذهبية مبررات الاعتذار التي كانت تدافع عنها ، ثم لا تلبث أن تستسلم دونها .


    رحل الشتاء … وأطل الربيع ، واعتذاره المنسي صار سراباً في صحراء الإياب .


    هي الآن لا تطلب ضماداً لجرح كبريائها … لا ترتجي عزاءً لعودتها الهادئة إليه ، واستسلامها اليائس على أعتاب حياته من جديد بعد أن خذلتها الأشواق .


    (أشتهي فقط أن أصحو من وهم أنه لا بد سيأتي اليوم الذي سيعتذر فيه ؛ ذلك الاعتذار الرقيق الذي ينعش أرواح العشاق المتعبة ، وينفض عنها الغبار … ذلك الاعتذار المضمخ بالحب العامر بالرجاء).

 

 


بقلم: محمد منصور

3 Responses

  1. Arikashiak

    رائعه …
    جميله
    وبسيطه
    ما أجمل اللقاء بعد طول الغياب
    وما أجمل الاعتذار عندما نترقبه !

    دمتي بشغف

  2. nba 2k16 mt glitch january

    I adore this website - its so usefull and helpfull.|

  3. www.uonuma-kome.com

    I’ve learn a few excellent stuff here. Certainly worth bookmarking for
    revisiting. I surprise how much effort you put to make this sort of magnificent informative website.

Leave a Comment

Please note: Comment moderation is enabled and may delay your comment. There is no need to resubmit your comment.